سلة مـــن ثمار عيسى الياسري
رؤوس محشوة بمخاوف وأحلام هائلة، صنعتها أساطير وخرافات تحولت إلى أكثر الأكاذيب صدقاً، لذا فقد احتشد رأسك بكل أساطير القرية، طقوسها السحرية، نبوءات عرافاتها، كنت تطبق وصايا جدتك وأمك كلها باستثناء وصيتين خرجت عليها، أولها عدم النوم في الظهيرة تحت ظلال الأشجار أو الجلوس وحيداً فيها، وثانيهما عدم الذهاب إلى المراعي البعيدة، لأن فيها جنيات على هيأة جميلات يرعين الغنم".
يفتتح الشاعر العراقي المعروف عيسى حسن الياسري شهادته عن الحياة والشعر والحب بهاتين الوصيتين اللتين زرعتهما فيه جدته، حين كان راعياً يروض الكلمات، ويمسد على جسد الشعر، لتينع فيما بعد قصائد ومجموعات أصبحت دروساً في المحبة والطيبة التي عُرف بهما. إلا أن الياسري خرق وصيتي جدته، ومن يومها وحتى اللحظة وهو يهيم على وجهه عبر قارات الأرض، "حيث ضيعت طريق العودة إلى البيت، وحكمة الأب، وحنان الأم، وحضن الزوجة، والتجوال مع حبيباتك، ودفء الموقد الذي يجمع حوله الأهل والأصدقاء وموسيقى المطر. أحلام غامضة، خيالات مبهمة، إحساس مبكر بالخوف والغربة، فقدان شيء لا بد وأن تعثر عليه ربما كنت تسميه الحرية".
الياسري الذي خرج من جسد قرية ميسانية، تأبط منفاه منذ سنوات طويلة ليركن في بيت زجاجي بمونتريال، يراقب المارة، ويحشد الكائنات ليتذكر ما كانت الحياة تعلمه إياه. من خلال هذه الشهادة حاولت الكاتبة اللبنانية فاطمة خليفة مؤذن أن تدخل إلى عوالم الياسري لتقطفها ثماراً طرية وتجمعها في سلة من الدراسات والذكريات والمكاشفات، في كتابها الصادر مؤخراً عن دار ضفاف بعنوان (سلة من ثمار).
اشتغلت مؤذن على رسائل دارت بينها وبين الياسري، كانت قد احتفظت بها منذ مدة ليست بالقصيرة، ولم تكن لتنشرها لولا أن فاتحها الياسري بجمع دراسات هذا الكتاب وتقديمها له، فحاولت أن تكتب مقدمة طويلة تحدثت فيها عن حالات الياسري الخاصة، ومكاشفاته معها.
تقول مؤذن :إن فلسفة الياسري المنفتحة على الحياة والوطن والمرأة والحب تقابلها تجارب عائلية وإنسانية أليمة، لكن تبقى قناعاته وفلسفته هي الغالبة "كما وصفها لي: (قصائدي بسيطة وصادقة ومقتطعة من القلب، إنها صورة مصغرة لحياتي الصغيرة والبسيطة والهائلة الألم في الوقت نفسه)".
المحبة التي حاول الياسري أن يطلقها على كل ما حوله، الناس، الشارع، البنايات، الحدائق، ما زالت راسخة حتى الآن، وفي رسائله يتحدث عن الله بالمحبة المطلقة، "شرح لي: الله عندي هو المحبة المطلقة، زوَّد لوحته الخالدة التي اسمها الإنسان بكل ما تحتاج إليه من ألوان مدهشة وانسجام رائع بين مساقط الضوء وتوزيع الكتل وقياس المسافة بين كل ضربة فرشاة".
ويضيف في المقطع ذاته بنبرة امتنان أبوية "أنا أحبه- يعني أحب الله- دون أن أواخذه على شيء. كان معي دائماً، يحبني ويرعاني وينزع الأشواك بيديه المباركتين عن طرقاتي التي أسلك. لقد منحني كنوزاً لا تقدر بثمن.. لذا فأنا أحبه حدَّ أن أذوب في محبته".
وعلى الرغم من التاريخ الطويل للياسري في الشعر والدراسات النقدية المهمة التي قدمها على مدى أكثر من أربعة عقود، إلا أنه يرى أن المكتبة العراقية والعربية ظلمته كثيراً بسبب التهميش الذي تعرض له، فيقول في إحدى رسائلة لمؤذن: "هل تعرفين أن المكتبة العراقية تخلو من كتبي منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة؟ الأجيال الجديدة لا تعرفني.. ليس بمقدوري أن أطبع كتبي.. لست أحد لصوص الأحزاب أو دجالي الدين أو جستابو السلطة. أنا درويش في زوادة سفره كتاب ورغيف خبز وقربة ماء".
للياسري آراء مختلفة في المناهج النقدية والنظريات الحديثة، فيرى أن الحداثة لا تعني أبداً أن تكون غير مفهوم من الآخرين وأن تتعكز على اللعبة اللغوية، وإنما أن يكون نتاجك حياً معتقاً مع الحاضر مهما كان النتاج موغلاً في القدم وهذا لا يتحقق إلا عبر التكامل الفني والتجربي". ويوظف موقفه من النقد الحديث في العراق بقوله: "إن تحليلات بعض نقادنا لا تستند؛ مع الأسف، إلى كشف ذاتي معرفي.. بقدر ما تأخذ من الآخر كشوفاته النقدية.. وتفرضها على إنتاج إبداعي مختلف له قوانينه وحاضنته البيئية والاجتماعية الخاصة".
آراء مختلفة ومتفردة لم نسمعها سابقاً من الياسري، لكن الرسائل المتبادلة بينه وبين مؤذن وشهادته الخاصة، كانت فاتحة لتعريف القراء بأهم هذه الآراء، في الحياة والحب والشعر والنقد والسياسة وغيرها من الموضوعات التي أثرت وما زالت تؤثر في حياتنا الشخصيــة والأدبية في وقت واحد.
جمع الكتاب دراسات نقدية ومقالات وحوارات وقصائد مهداة للياسري، فضلاً عن التغطيات الصحفية التي كتبت عن الاحتفاليات التي أقيمت له، وضم أسماء مثل: فاطمة خليفة، د. صبري حافظ، سعد جاسم، طراد الكبيسي، عمر السراي، حسن العاني، محمد الحمراني، جمال علي الحلاق، حاتم الصكر، هادي الربيعي، عدنان الصائغ، عبد الواحد محمد، جمال جاسم أمين، خضير عبد الأمير، وغيرهم الكثير.
يشار إلى أن الكتاب صدر بـ425 صفحة من القطع المتوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق