د. عبد الحسين شعبان |
ولد السيد شمران يوسف محسن الياسري (أبوكاطع) أواسط العشرينات في محافظة الكوت (واسط حاليا") قضاء الحي، قرية محيرجة، (التي تسمى حاليا" ناحية الموفقية) منطقة التساعين عام 1926 (يستند البعض إلى جواز سفره اليمني الجنوبي، ليؤرخوا لميلاده بالعام 1929 والبعض الآخر إلى حديثه (المرسل) في قاعة طلبة الدراسات العليا في موسكو ليقولوا عام 1932، ولكن حديثه ذلك لم يكن يخلو من مداعبات حول العمر والشيخوخة، والصحيح من الاستدلال والمقارنة هو ميلاد السيد شمران الياسري كان عام 1926).
كُني (أبوكاطع) بعد أن اشتهر برنامجه الإذاعي بعد ثورة 14 تموز(يوليو)عام 1958 (احجيها بصراحة يبوكاطع). تزوج عام 1947 ورزق بخمسة أولاد وبنتين. أكبرهم جبران الذي درس وأقام في هنغاريا (المجر) (وتوفي فيها عام 2001 – إيضاح من المركز/ إحسان الياسري).
علمته والدته السيدة (كليفه السيد علي الفاضلي) القراءة، حيث كانت تجيد قراءة القران الكريم، ونشأ في بيئة (السادة والعبيد) على حد تعبيره، وفي عائلة محافظة في الريف، وتزوج من السيدة هبوب السيد إبراهيم الياسري. يقول شمران الياسري عن مولده ونشأته (ولدت في قرية صغيرة على نهر الغراف، جنوب مدينة الحي، وقد اختلف الرواة الثقاة وغير الثقاة في تأريخ الميلاد، فلا احد من أهلي يعرف، ولا اعتادوا تسجيل المواليد.. ولكنني بالاستذكار والقرينة، حزرت التأريخ التقريبي، وهو يشبه إلى حد ما علاقة ذلك الفلاح الذي وضع غيمة علامة يهتدي بها على الطريق.. ولنقل بصريح العبارة، بعد الزواج بستة أشهر بلغت مبلغ الرجال، فكم كان عمري ياترى؟ أظنه 15 سنة ولذا يصح القول إنني من مواليد 1932 (انظر: رسالة خاصة إلى الدكتورة سميرة الزبيدي، مجلة الثقافة الجديدة، العدد140 مصدر سابق) يقول (أبوكاطع): كانت أمي تحسن قراءة القرآن الكريم فقط.. والغريب إنها كانت تقرا القران جيدا"، ولكنها لا تعرف قراءة سطر واحد من كتاب آخر، ولا تعرف خط اسمها.. ومع ذلك علمتني قراءة (جزء عم). وحين امتلكت مفاتيح ترتيب الحروف، علّمت نفسي الكتابة.. (من رسالة خاصة قام بإرسالها للدكتورة سميرة الزبيدي التي كانت تعد دراسة لنيل شهادة الدكتوراه في أواخر السبعينات في موسكو). منذ نشأته الأولى كان ولعا" بالقراءة، وكان يقضي أيام الصيف في بيت عمه السيد إبراهيم ليلتهم الكتب، التي لم تكن تتجاوز الخمسين كتابا". وقد يكون من المفارقات غير المعروفة، انه كان يحب الرسم أيضا.. وقد لازمته هذه الهواية، حتى إن العائلة ظلت تحتفظ بلوحات زيتية، بينها لوحة لشخصيته الأثيرة، والتي سترد على لسانه في أحاديثه وحكاياته ومقالاته الصحفية وقصصه ورواياته، واعني بها خلف الدواح (يعتقد كثيرون إن خلف الدواح، هو شخصية غير حقيقية (وهمية) وقد احتفظ (أبوكاطع) بعلاقته الخاصة بخلف الدواح، وظل حريصا" على إخفائها والتمويه عليها لأسباب احترازية. يقول الأديب جيان (يحيى بابان) الذي يعيش في براغ. كان شمران الياسري قد طور بصورة رائعة شخصية خلف الدواح التي خلقها وبلغ الأمر إن شخصية خلف الدواح صحفيا" قد نضجت إلى الحد الذي يتوهم كثير من القراء ربما حتى اليوم بأنها شخصية مستقلة. وإذا كان هذا رأي جيان القريب من (أبوكاطع)، فما بالك برأي جمهور واسع لا يعرف (أبوكاطع) إلا من خلال عموده وحكاياته. ولذلك أود الإشارة إلى إن خلف الدواح هو شخصية حقيقية وليست وهمية واسمه الصريح (كعود الفرحان)، ويسرني أن انشر صورته في هذا الكتاب فقد كان وراء الكثير من حكايات (أبوكاطع) وهو جليسه وأنيسه ومصدر تندراته الكثيرة. يقول (أبوكاطع) عن علاقته بخلف الدواح: زيارة صاحبي (خلف الدواح) لا تحكمها المواعيد، هي مطر آذار أشبه.. أجده أحيانا" في غرفتي فقد سبق العاملين في دوامي الصباحي، ولا استغرب رؤيته عند نهاية السلم بعد انتهاء الدوام.. وقد يجيء مزاجه فيشاركني الخفارة الليلية، حتى نهايتها.. وإجمالا" هذا هو خلف الدواح. انظر (أبوكاطع) احجيها بصراحة يبوكاطع، مادة بعنوان (يبسطهم بشدة ريس) بغداد، 1974.) (يجد القارئ صور للمرحوم كعود الفرحان/ خلف الدواح تحت اسم -أبو إبراهيم- إيضاح من المركز).
كان (أبوكاطع) يقرض الشعر أيضا" وخصوصا" الشعر الشعبي. وحفلت حكاياته وقصصه بتوليفات كثيرة بهذا الخصوص. ففي العام 1949 يوم تسلم قطعة ارض في مشروع الدجيلة الزراعي، اكتشف غياب العدالة في التوزيع، فالمتنفذون عشائريا" واجتماعيا" حصلوا على الأراضي الصالحة للزراعة، أما الآخرون فكانت قطع الأراضي التي حصلوا عليها ذات ملوحة عالية أو بعيدة ويصعب إرواؤها سيحا، وهو ما كانوا يسمونه (المعالي). ورغم إن (أبوكاطع) بحكم المركز الاجتماعي والعشائري للعائلة حصل على قطعة ارض ممتازة، إلا انه رفض تلك الصيغة التمييزية لتوزيع الأرض، وقد زاد في رفضه واستفزازه حادثة حصلت في الأرض المجاورة (شاخة_7) حيث استولى عليها احد رجال الدين (المومن) المتنفذ بالتعاون مع دائرة الزراعة وعلى حساب مزارع آخر، حيث أعطي الأخير قطعة ارض في (المعالي) رديئة من حيث الموقع والخصوبة فكتب قصيدة مستهجنا" ذلك السلوك يقول في مطلعها:
آه يالدجيلي الضاع مفتاحه!
ناس بظليمة وناس مرتاحة
(مومن) بالمعالي باك فلاحه
إمفرّع راسه ويدعي إعليه (هامش طويل ص 49)
وهناك حكاية أخرى بخصوص توزيع الأراضي في الموسم الزراعي 1966_1967 أيام حكم بيت عارف (كما كان أبوكاطع يسمي تلك الحقبة)، المقصود بها حكم عبد السلام وأخيه عبد الرحمن عارف فقد كان محافظ واسط (متصرف لواء الكوت) السيد محسن الرفيعي (مدير الاستخبارات أيام حكم عبد الكريم قاسم)، يحترم السادة آل ياسر فحاول أن يخصهم بقطع ارض منتقاة خلال التوزيع.. ومنهم حصل جبران الابن الأكبر لـ(أبوكاطع) على قطعة ارض من الوحدات الاستثمارية للمشروع (مشروع الدلج) وعندما علم (أبوكاطع) الذي كان مختفيا" بطريقة توزيع الأراضي التي لم تخلو من المحسوبية والمنسوبية، سخر من لجنة التوزيع، حيث استهجن حرمان فقراء الفلاحين من الحصول على الأراضي الصالحة للزراعة، فكتب تعليقا" لاذعا" عبر إذاعة صوت الشعب العراقي، وختم ذلك التعليق بقصيدة شعبية يقول مطلعها:
مشروع دلمج صفه للسادة
مثل نذر عيادة لأولاده
وقد استاء الرفيعي كثيرا" عندما علم إن إذاعة سرية هاجمته وبصوت (أبوكاطع) أو السيد شمران، فعاتب السادة آل ياسر، فاعتذروا بدورهم عما حصل (هامش قصير ص 50).
كان (أبوكاطع) إضافة إلى كتابته الشعر، دائم الاستشهاد به، ويوم الخصومات المصحوبة بالعنف، والتي أدت إلى سقوط بعض الضحايا مما كان يدفع بالإطراف الأخرى للرد أو الثأر فكانت تذكى نار الأحقاد متوقدة. اذكر مرة حدثني بهذا الخصوص يوم كانت تستثار على لسان الشاعر الشعبي إبراهيم الشيخ حسون!:
اظلم الكون بفكد شمبارة والبعورة تريد تاخذ ثارة
والبعورة تريد تاخذ بثارة تريد حتى تجدد اللعبة من جديد
والرفاك هنا تدك نقارة (هامش طويل ص 51)
كان (أبوكاطع) يبدي اهتماما" خاصا" بالشعر الشعبي ويتابع النتاجات الجديدة للشعراء الشعبيين خصوصا" بعد أن حرمت السلطة نشر إبداعهم بحجة حماية اللغة العربية (بعد العام 1974). وفي مقدمة الشعراء الذين كان يعتز بهم مظفر النواب، كرمز" للتجديد الشعري وفي قصيدة الحداثة باللهجة العامية، إضافة إلى عريان السيد خلف. كما كان يهتم ببعض الشعراء الشعبيين الشباب آنذاك أمثال كاظم إسماعيل الكاطع وجمعة الحلفي وكريم العراقي ويتابع في الوقت نفسه قصائد شاكر السماوي وعزيز السماوي وآخرين. وكان يسال عن بعض الشعراء الشعبيين الكلاسيكيين وبخاصة النجفيين مثل الشاعر الحسيني عبد الحسين أبو شبع والشاعر عباس ناجي. وعندما نقلت إليه بعضا" من أشعارهم، قام بتدوينها على الفور(هامش طويل ص 52).
تعلم (أبوكاطع) منذ وقت مبكر، وكان يرتدي وقت ذاك العقال والكوفية (اليشماغ)، الضرب على الآلة الكاتبة. وكانت مثل تلك الهوايات، إضافة إلى قراءة الصحف، تثير استغراب الفلاحين واهتماماتهم في آن. كما بدا يتعلم اللغة الانكليزية بمساعدة المهندس ظافر عبد الصاحب النجفي، حيث كان يعمل مع عمه في مشروع الدجيلة الزراعي، وأقام علاقة طيبة مع المهندسين الزراعيين (هامش طويل ص 53).
وبعد فشل المشروع غادر عام 1954_ 1955 إلى بغداد، واشتغل هناك محاسبا" في شركة عبد العزيز ناصر، وكان يدرس مساءا" في المدارس الأهلية، حيث تعلم أصول المحاسبة، والتي كانت تعرف آنذاك ب(البلانجو).
وددت أن اذكر ذلك لكي أعطي صورة ودليلا" على حيويته وديناميكيته وعطشه للمعرفة والثقافة، وهي التي دلته على جادة السياسة بحثا" عن العدالة، فارتبط بصداقة الشهيدين عطا الدباس وعلي الشيخ حمود، الذين اعدما عام 1956 في الكوت (الحي) بعد الانتفاضة انتصارا" للشقيقة مصر ضد العدوان الثلاثي_ الانكلو_ فرنسي الإسرائيلي.
اشتغل عام 1957 في وزارة الإعمار، ثم عمل مديرا" في قسم التوجيه والنشر في وزارة الإصلاح الزراعي (بعد الثورة) وكان يعد برنامجا" إذاعيا" أصبح الأكثر شهرة في أعمال (أبوكاطع) وهو(احجيها بصراحة (يبوكاطع) أي قلها بصراحة (يا أبوكاطع)، لكن هذا البرنامج توقف واعتقل (أبوكاطع) عام 1962، اثر توقيعه على نداء (السلم في كردستان) حيث تنقل بين سجن بغداد المركزي وبعقوبة والعمارة. يتحدث بارتياح عن فترة سجنه في العمارة المليئة بالنشاط والعمل، ولكنه يتذكر بحرقة وألم فترة سجنه الانفرادي في بعقوبة ويقول عنها (إنها أسوء فترة في حياته) (حديث خاص مع المؤلف ربيع 1977 في براغ. (قارن رسالة خاصة من الأستاذ حميد الياسري إلى المؤلف عام 1996.
من المفارقات خلال اعتقاله انه في إحدى المرات سأله الشرطي الذي كان يبدو عليه جنوبيا" فقال له: من يا عمام أنت (أي من يا عشيرة)؟ فأجابه (أبوكاطع): آني ياسري، فقال الشرطي: والنعم والسبع تنعام وكفو للسادة آل ياسر. وقد تفاءل (أبوكاطع) بان رحلته الطويلة وهو ينتقل من سجن لآخر ستكون مريحة، برفقة هذا الشرطي الذي عرف آل ياسر. لكن التفاؤل ذهب أدراج الرياح عند السؤال الثاني للشرطي! أنت ابن حمولة وأفندي محترم ليش محبوس؟ فأجابه (أبوكاطع) قائلا": لأنني شيوعي، فما كان من الشرطي إلا وقال له بغضب: تف على غيرتك، سيد وشيوعي؟.. ياسري.. وصاير شيوعي؟.. صايره.. دايره.. والله (الكلبجة) ما تطلع من أيدك اليوم ولا دقيقة؟ لكن (أبوكاطع) بنكتته المملحة وأسلوبه الآسر، استحوذ على عقل الشرطي بعد منتصف الطريق وهانت الأمور عندما أصبح التعامل لينا".
أطلق سراحه قبيل 8 شباط (فبراير) 1963 فاختفى في بغداد حتى شهر أيلول (سبتمبر) ثم استطاع التوجه إلى الريف حيث كان يعمل بصورة سرية حتى عام 1968. اصدر خلالها صحيفة الحقائق (انظر: أبوكاطع على هامش الصحافة الشيوعية: هل يصلح هذا للنشر!؟) مجلة الثقافة الجديدة، العدد 127، 1981).
و(الحقائق) نشرة خاصة لمنظمة الكوت المحلية الشيوعية_ وكانت توزع على المناطق والتنظيمات في لجنة محلية الكوت والمناطق القريبة منها. وغالبا" ما كان يستخدم الفرس(الحصان) لتوزيعها. وكان يقوم بالإشراف على تلك المهمة (أبو محيسن). (هامش طويل ص 55). الذي قتل أثناء (زركة) أي هجمة حكومية على ريف الكوت الجنوبي الممتد إلى الناصرية. وكان الكثير من مواد النشرة المكتوبة باليد في الغالب وبالألوان أحيانا"، تذاع من إذاعة (صوت الشعب العراقي) في الخارج. (هامش طويل ص 55)، كما كان يقوم بالمهمة أيضا" أبو عليوي (هاشم محسن) الذي مات في دمشق في أجواء الغربة (هامش طويل ص 55).
الفلاح من الصحافة إلى حلم الروائي
امتهن (أبوكاطع) حرفة الصحافة وعاش لها فنا" ومزاجا". وعندما ضاقت عليه فرصة الكتابة العلنية، توجه إلى الكتابة السرية. فقد حاول إصدار (الحقائق) مجددا" عند اضطراره الاختفاء عام 1970_ 1971، وهي الفترة الثانية التي تفرغ فيها لإعادة كتابة رائعته (الرباعية) التي أنجز مسوداتها قبل اختفائه حيث كان على معرفة دقيقة بحياة الفلاحين وعاداتهم وتقاليدهم، وقد أكسبته تلك الخبرة، وخصوصا" العودة الثانية إلى المعايشة اليومية والتفصيلية خيالا" خصبا" وظفه على نحو عملي في رباعيته وحكاياته. ورغم انغماره في عالم الصحافة، إلا إن حلمه في أن يصبح روائيا" لم ينقطع لحظة واحدة.
يقول الروائي غائب طعمة فرمان انه في عام 1969 حين عدت إلى العراق وبعد غيبة تسع سنين، تعرفت على (أبوكاطع) في إحدى مقاهي شارع السعدون في بغداد، وبدا وكأن احدنا يعرف الآخر منذ عهد نوح، وهذا التعبير مستلهم من روح (أبوكاطع). وعندما افترقنا اسر إلي إن لديه (محاولة لكتابة رواية). وسألني عما إذا كان لدي الوقت لأقرأ بعض ما كتبه، وأعطيه رأيي الصريح فيما إذا كان من الممكن أن يسمي ذلك رواية أم (خرط) يعني (كلام فارغ)، وفي اللقاء الثاني جاء بدفتر سميك ونظم كله بسطور متراصفة. وفي بيتي حين أخذت اقرأ الدفتر، بدأ يتنامى في خيالي المبصر عالم متجسد رحب مغمور بأنفاس الريف وأناسه، صنعه قلم ذو دراية ممتازة بما يريد أن يقول، وحب عارم للوسط الذي يصوره، ومعرفة مستفيضة بخبايا الحياة الريفية وحنايا سكانها الواقعيين إلى حد إحساس القارئ بأنفاسهم تدفئ قلبه (هامش طويل ص 57).
وظل حلم (أبوكاطع) أن يصبح روائيا" هاجسا" ملازما" له وبخاصة منذ أواخر الستينات، وحسبي هنا أن اقتبس مقطعا" ذا دلالة بليغة مؤيدا" ما جاء فيه من قول للشاعر عبد الكريم كاصد (لقد فاجئ أبوكاطع قارئه البسيط، الذي يتوقع سخريته الدائمة بجديته وبصفته كاتبا" وروائيا"، مثلما فاجئ ناقده الإيديولوجي (مصطفى عبود) بمدحه في استخدام الأساليب المختلفة ضمن الأسلوب الواحد.. وقد أثبت خبرته ككاتب في مرتبة ناضجة في رواية (قضية حمزة الخلف). ففي هذه الرواية يحرص أبوكاطع أن يقدم نماذجه البسيطة بتركيب غير بسيط وبلغة فصحى لم تتخلى عن مضمونها الشعبي) (انظر عبد الكريم كاصد _ من يعرف أبوكاطع ؟ مجلة الثقافة الجديدة العدد 255، أيار (مايو) حزيران (يونيو) 1993).
لقد وردت هواجس (أبوكاطع) الذي مازح غائب طعمة فرمان: (جا بس انتوا).(إحنا هم نريد نصير روائيين)، أي (لستم وحدكم الروائيين بل نحن نريد أن نصبح روائيين أيضا")، وذلك في إحدى مقالاته الصحفية بعنوان رسالة إلى صديقه (إن الرجل موضع عنايتك المدعو (أبوكاطع) يحلم أن يغمض عينيه (بعد تسليم الروح إلى بارئها) وقد سمع من يدعوه فلان الروائي وليس الصحفي، وبسبب من هذا الطموح الذي هو اكبر من طاقتي تجدني اسّود وابّيض من حين لآخر اقطع الكتابة لأقرأ) (أبوكاطع) رسالة إلى صديقي المجموعة الثانية، بغداد 1974 ص 197 ).
في بغداد عمل في صحيفة صوت (الأحرار) و(البلاد) و(الحضارة)(سنوات ما بعد ثورة 14 تموز/ يوليو_ مباشرة).
أما في الفترة الثانية بعد عام 1968، فقد كان مديرا" لتحرير (الثقافة الجديدة) وكتب في صحيفة (طريق الشعب) و(الفكر الجديد).
درس الصحافة في سنوات السبعينات من خلال دورات صحفية إلى (ألمانيا الديمقراطية) آنذاك، في معهد الصحافة، وحاول تعلم اللغة الألمانية، وكان البعض يعتقد أو ربما هو راوده مثل هذا الاعتقاد، إن سبب إرساله للدراسة، هو إبعاده لأنه لم يكن ليروق للحكام. وقد جاء في رسالة وجهها حميد الياسري للمؤلف 23/9/1996 إن مربط الفرس في إرساله للدراسة هو إبعاده عن الجريدة في بغداد. ويضيف انه كان على قناعة تامة بذلك. كما لم يكن منسجما" مع النهج السياسي السائد، حتى اعفي تماما" من الكتابة عام 1976، فأضطره إلى مغادرة العراق متوجها" إلى براغ، وكان آخر ممنوعاته مادة كتبها إلى (طريق الشعب) تحدث فيها عن (الظهر والظهيرة والظهير، أي الحليف) حيث يعرج فيها على ظهره فيقول سيبقى ظهري يؤلمني ويؤلمني، ويقض مضجعي، آه يا ظهري.. هل سيبقى ظهري كذلك!؟
حدثني بذلك في إحدى الليالي الخريفية عام 1976 مشيرا" إلى انه يشعر إن المشهد السائد (مثل المعكل بالمرقص) (من العقال الذي يرتدى على الرأس فوق الكوفية أو اليشماغ، وهو اللباس التقليدي لسكان القرى والأرياف من العرب)، وهو معكل بمرقص السياسة المثير، فما كان يجري في تلك الأيام كان يطلق عليه (عرس واويه) (أي الثعالب). تعبيرا" عما كان يعنيه من مواقف إزاء الجبهة الوطنية بين حزبي البعث والشيوعي.
وفي إحدى المرات كان احدهم يغني أغنية (مطر.. مطر حلبي. بلل بنات الجلبي.. الجبهة صفت (أي صارت) للناس، يرضى ما يرضى الجلبي) أي يقبل أو لا يقبل.. فما كان منه إلا أن علق: عمي آني (أي أنا) جلبي.. سجلوني جلبي.. حاضركم يبلغ غايبكم.. ترى آني (للتأكيد أنا) جلبي (هامش طويل ص 59).
أن يختلط المشهد فيتحول روائي واعد في أوج عطائه الفني، وصحفي متميز له عموده وأقصوصاته وحكاياته وتعليقاته الساخرة، إلى مجرد (مهرب) يتاجر بالأسلحة، فتلك تهمة جديرة بإسكات مثقف أو كتم صوته، وهي دليل على حالة الانحطاط التي وصلت إليها السلطة في علاقتها مع المثقفين والمبدعين. وهذا الدليل يكفي، حتى وان كان حادثا" واحدا" على انحدار الوضع إلى مهاوي الرذيلة حين يجري تشويه مثقف بطعون وتهم تحفل بها سجلات عصابات المافيا وليس لها علاقة بالعمل السياسي، أما أن تواجه سلطة ما، فردا" بعينه، بتهم المافيا لقهره وإرغامه على التخلي عن معتقده فتلك سمة لا تليق إلا بالأنظمة الفاشية، والسياسيين من ذلك النوع المنزوع الضمير، المفتقد للوجدان.
والأكثر من ذلك يوم يروج البعض ولأسباب (مصلحية) وامتيازات انتهازية قصيرة النظر بوشوشات وبتواطؤ معلن أو مستتر لكي تمر التهمة ويسكت (أبوكاطع)، بل يمنع عن الكلام ثم يعدم ابن أخيه (حبيب) بعد عامين بتهمة التبرع بربع دينار للحزب الشيوعي، كما يعتقل أخوه حسن ويعذب بأواخر السبعينات ثم يفارق الحياة بعدها بسنوات بسبب إصابته بمرض بالقلب (هامش طويل ص 60).
إن تهمة كتلك لهي سمة مميزة وعلامة فارقة للتعامل الفاشي بين السلطة ومواطنيها. إن وصفا" لحالة كهذه، هو اقرب إلى السريالية والتجريد وانعدام القوانين والمعايير الإنسانية والأخلاقية خصوصا" عندما يراد مسخ الإنسان إلى الدرجة التي يتخلى فيها عن إنسانيته، وحين ينام الناطور أو يسترخي، تعبث الثعالب في البساتين وينتشر اللصوص، حيث تكون مصائر البشر عرضة للمجهول والأقدار والغدر.
كان (أبوكاطع) يثير الكثير من الأسئلة، وقد تبدو للسامع أو القارئ، إنها أسئلة سهلة لكن الأسئلة السهلة، هي اكبر الأسئلة وأخطرها: الحرية، الوفاء، المناصب، الإيمان، الالتزام، نكران الذات، حق العيش، التمتع بمباهج الحياة، الوجدان، الاستعداد للتضحية، الضعف الإنساني.. الخ.
هذه الأسئلة وغيرها تضع الإنسان في مواجهة مع نفسه باندهاش تقودك إلى جادة البحث، لتفتح أمامك عالما" مليئا" بالتناقض والاضطراب والحيرة والتردد وضياع البوصلة والاهتداء.. إنها تدفعك لاستخدام العقل والتفكير، فالإنسان بما حباه الله في عالمنا، هو أفضل المخلوقات وسيدها، والعقل سيد البشر أو زينة الإنسان كما يقال.. ولذلك خاطب (أبوكاطع) العقل، مستفزا" تارة، مهاجما" ومستفهما" تارة أخرى. أما لغة (أبوكاطع) فقد كانت سلسة وقوية أيضا"، في الفصحى والعامية، ولها من المرونة الشيء الكثير، وان كان هاجسها في البدايات التوجه إلى الفلاحين، لكنها أصبحت مع مرور الأيام تستطيع مخاطبة أبناء المدينة، حتى إن (خلف الدواح) الفلاح القادم من الريف، اخذ يحاور الدولة بمنطق الايدولوجيا ويناقش الحركات والأحزاب وينتقد الأوضاع السياسية. لقد أصبح (خلف الدواح) صديقا" يشار له بالبنان لجمهرة واسعة من أبناء المدن أيضا"، من قراء أبوكاطع، دخل حياتهم وناقش أمورهم العامة والخاصة أحيانا" وأرسلوا له الرسائل وكتبوا عن همومهم وشكاواهم ومظالمهم!
لم تعد أحاديث المجالس المملحة، والحكايات الشفوية هي التي جاءت مع أبوكاطع وحده بل أخذت تكتسب معاني حياة سكان المدن، وتدخل عالمهم وتنشغل بهمومهم وهي هموم المجتمع ككل بشرائحه المختلفة.
فالصور الشائعة للفلاح في المدينة العربية كما قدمها الأدب العربي (السينما العربية والمصرية تحديدا") هي انه مصدر مداعبات ساخرة ومفارقات ضاحكة، حيث يظهر بها الفلاح في النهاية كموضوع ساخر لأبناء المدن.
وفكرة الفلاح في المدينة هي فكرة شائعة كثيرا"، حيث يبادر ابن المدينة أثناء مصادفته بالفلاح، لإنتاج سلسلة من المداعبات الضاحكة جاعلا" منه موضوعا" مفضلا" للسخرية والتهكم. بيد إن هذه الصورة قد تغيرت بالأدب والصحافة العراقية مع ظهور شخصية أبوكاطع الفلاح العراقي القادم من الجنوب إلى بغداد أواسط الخمسينات حيث بدء يترك أسلوبه الجديد منذ أواخر الخمسينات. فقد أصبح بوسع أبناء المدن أن يروا شيئا معاكسا" أحيانا". وبدلا" من أن يكونوا هم منتجو السخرية، أصبحوا هم أيضا" مادتها.
وإذا جاز لي القول إن (أبوكاطع) قام برسم صورة ضاحكة جديدة لابن المدينة وأوهامه وأكاذيبه وألاعيبه وذلك استعارة (حكمة) الريف وتراثه الحكائي الغني، فلم يعد ابن الريف وحده مصدر السخرية بل شاركه ابن المدينة أيضا".
إن الصورة السائدة لعلاقة الفلاح بالمدينة هي التصادم والتنافر، وقد عرف الأدب العربي نماذج بارزه بذلك، فطه حسين يقدم لنا في كتاب (الأيام) الشاب الريفي القادم من قرية المنيا المتشبع بالثقافة الأزهرية كنقيض للحضارة الأوربية التي تخيفه، وتراه منطويا" منغلقا" على نفسه مرتابا" من عالم المدينة، في حين يذهب الطيب الصالح في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) ليجسد علاقة الريفي بالمدينة الأوربية، حين يضعه بين سيقان امرأة شقراء مضيفا" تناقضا" وازدواجية جديدة على أصله (الأسود) وحاضره الانكليزي فلا هو قادر على التمسك بأصوله الفلاحية (الزنجية) ولا هو قادرا" على التكيف مع المدينة الأوربية.
أما الرواية العراقية قبل (أبوكاطع) وان كانت تتحدث عن الريف إلا إنها لم تكن رواية ريفية، فالرواية العراقية على حد قول الروائي والصحفي زهير الجزائري (ابنة مدينة، ورواد الرواية العراقية، محمود احمد السيد، سليمان فيضي، جعفر الخليلي، ذو النون أيوب، وبعدهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، أبناء مدن).
في رواية المدينة عن الريف أو الفلاح لم يستطع مؤلفوها من الخروج عن أحكام مسبقة ارادوية محددة سلفا")
|
الثلاثاء، 7 يناير 2014
شمران الياسري
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق